• ×
admin

القصيدة.. مرآة الأزمنة

القصيدة.. مرآة الأزمنة

إبراهيم الوافي

القصيدة لا تُولد من لحظةٍ عابرة، بل من سرٍّ قديمٍ ظلّ يتربّص بالزمن حتى يكتمل نُضجه في صمت الوجود، هكذا أراها بعد أكثر من ثلاثين عامًا برفقتها، قارئًا وشاعرًا، فالكلماتُ التي تخلَق في ساعتها، تختار زمنها كما تختار الأرواحُ موطنها الأول، تأتي حين يشتهيها الغياب، وتؤجِّل ميلادها حتى يبلغ الحنينُ تمامَ القصيدة، كثيرٌ من القصائد، بل حتى بعض الأبيات، تبدو كأنها تستيقظ بعد أن ينام شاعرها، تعبر الأزمنة بحثًا عن زمنٍ يليق بها، وربما يشعر الشاعر في لحظتها الأولى أنه أمام مرآةٍ رأى فيها نفسه من قبل، فيرتبك بين تكرار الرؤيا وتجديدها، بين أن يكون مبدعًا أو مجرد شاهدٍ على تكرار جوهره القديم في هيئة جديدة.

إنها ورطة الشعر حين يسبق زمنَه أو حين يتأخر عنه، ورطة أن يولد النصّ قبل أن يبلغ العالمُ وعيَه الكافي لاستقباله، أو أن يتأخر الشاعر عن قصيدته فيظلّ يركض خلفها لاهثًا، هنا يصبح التكرارُ نبوءةً لا اجترارًا، ويغدو البحثُ عن التعبير المختلف بحثًا عن وجهٍ آخر للحقيقة ذاتها، وجهٍ يتجلّى في كل مرةٍ على نحوٍ جديد، لأن حالات الإنسان وإن تشابهت، فإن وجعها لا يتكرر بالطريقة نفسها أبدًا!

ربما لهذا لا يرى الشعراء في التكرار إلا اختبارًا لصدقهم، فحين تعود القصيدة إليهم في هيئةٍ جديدة، كأنها تقول: “ما زال فيك ما يُقال»، وهكذا يُدرك الشاعر أنه لم يكتبها كلها، وأن ما كتبه لم يكن سوى أثرٍ أوليّ لحلمٍ أكبر منه، فكل قصيدةٍ، مهما بلغت من اكتمالٍ، ليست سوى وعدٍ ناقصٍ بتمامٍ قادم، أو ظلالًا لقصيدةٍ أبديةٍ تكتبُه من حيث لا يدري.

أما في زمنٍ يلهث فيه الإنسان نحو المستقبل، يظلّ الشعر نافذةً مفتوحةً على الأمس والغد معًا، هو ذاكرةُ الحلم حين يفقد العالمُ ذاكرته، وبصيرةُ القلب حين يعمى العقل، الشعراء الذين يغامرون بالصعود إلى سماء الجوهر الإنساني ثم يعودون ببخور أرواحهم لا يكتبون لأنفسهم فحسب، بل يدوّنون وجودنا كلّه، حيث يسكن في قصائدهم يومُهم، وفي تداعياتهم أمسُنا، وفي رؤاهم الغدُ الذي لم يولد بعد.

لهذا، حين نعيد قراءة قصيدةٍ بعد عقودٍ من كتابتها، نشعر أنها كُتبت الآن، لأن القصيدة الحقيقية لا تعرف الفناء، بل تؤجّل زمنها حتى يأتي قارئها، إن تكرارها هو استمرارها، وعودتها إلينا هي دلالتها على الخلود، أمّا الشاعر، فسيظلّ في بحثٍ دائمٍ عن القصيدة التي لم يقلها بعد، القصيدة التي تموتُ معه لنحيا بها بعده، تلك التي تبلغ زمنها فقط بعد أن يرحل صاحبها، حينها ستصل إلينا وقد اكتملت نبوءتُها فينا.

الرياض
بواسطة : admin
 0  0  1