الورود التي تصل متأخرة
الورود التي تصل متأخرة
إبراهيم الوافي
في كل مرة يرحل فيها مبدع، يتأخر الرفاق خطوة، ثم يستديرون فجأة ليلوّحوا له بالورود، كأنَّ الموت هو الضوء الوحيد الذي يُحسن إضاءة الوجوه، أو كأنَّ الغياب شرطٌ متأخر للاعتراف، هذه المفارقة ليست عابرة، بل هي ظاهرة إنسانية ضاربة في عمق الوجدان والتاريخ.. لهذا سنتساءل دائمًا لماذا نحتفي بالمبدعين بعد رحيلهم أكثر مما نحتفي بهم وهم أحياء بيننا؟
فلسفيًا، يبدو الموت هنا كاشفًا لا قاطعًا، إنه يجرّد المبدع من ضجيج اليومي، من اختلافات الرأي، من حساسية الحضور التي تُربك التلقي، بعد الرحيل، يتحول المبدع إلى “نص خالص”، إلى أثر بلا صوت، وإلى ذاكرة بلا مطالب، حينها فقط، نشعر أننا نستطيع الإنصات له دون خوف من المقارنة أو المنافسة أو حتى الحسد الخفي الذي لا نعترف به، فالحياة بطبيعتها ساحة ازدحام، أما الموت فيصنع فراغًا يليق بالتأمل.. وجدانيًا، نحن نحب من بعيد أكثر مما نحب من قريب، القرب يحمّلنا مسؤولية الاعتراف، والمساندة، وربما الاختلاف الصريح، أما البعد، فيمنحنا رفاهية الحنين، بعد الرحيل يصبح المبدع “قصة مكتملة”، لا تتغير، ولا تخذلنا بتحولات جديدة، ولا تربك ذائقتنا بتجربة لم نفهمها بعد، والحنين بطبيعته انتقائي يلتقط الأجمل، ويترك ما عداه في الظل، ولهذا يبدو الاحتفاء بعد الموت أنقى لكنه في حقيقته أقل شجاعة.. اجتماعيًا، تلعب الجماعة دورها المعتاد في صناعة الإجماع المتأخر، ففي حياة المبدع تتوزع الآراء، ويشتبك المختلفون، وتحتدم الأسئلة حول القيمة والجدوى والاتجاه، وبعد موته تهدأ السجالات، ويُعاد ترتيب السردية، فجأة يصبح “رمزًا”، والرمز لا يُناقش بل يُعلّق على الجدران ويُحتفى به في المناسبات فالمجتمع هنا لا يحتفي بالمبدع فقط، بل يحتفي بنفسه أيضًا، لأنه أخيرًا “انتبه”، ولو متأخرًا.. تاريخيًا، هذه الظاهرة ليست استثناءً عربيًا ولا سعوديًا، بل هي سلوك إنساني متكرر، من الشعراء والفلاسفة والعلماء، إلى الموسيقيين والفنانين، كثيرون لم يعرفوا دفء الاعتراف إلا بعد أن بردت أيديهم، التاريخ نفسه يُكتب غالبًا بعد أن تهدأ العواصف، وبعد أن يغيب أصحاب الأصوات العالية، وكأن الزمن يحتاج إلى مسافة كافية ليحكم، لكنه في أحيان كثيرة يتذرع بهذه المسافة ليبرر تأخره، غير أن السؤال الأكثر إيلامًا لا يتمثل في لماذا نحتفي بعد الرحيل؟ بل ماذا نخسر حين نفعل ذلك؟ نخسر فرصة الحوار مع المبدع وهو في أوج قلقه الخلّاق، نخسر أثر التشجيع في لحظة الشك، ودفء الاعتراف في لحظة التعب، نخسر أن نكون جزءًا حيًا من التجربة، لا مجرد شهود متأخرين على نهايتها.. الاحتفاء بعد الرحيل جميل، لكنه ناقص، يشبه باقة ورد تُلقى على مكان اللقاء بعد برودة ظلاله ورحيل أهله!
إن الأجمل، والأصدق، والأكثر عدلًا، أن نحتفي بالمبدعين وهم بيننا نختلف معهم، نعم، لكن نعترف بهم، نناقشهم، لكن لا نصمت عن قيمتهم. فالمبدع لا يكتب للتاريخ فقط، بل للّحظة التي يعيشها، وللقارئ الذي يلتقيه الآن، لا بعد أن يصبح صورة مؤطرة في ذاكرة الزمن.. ربما آن الأوان أن نعيد تعريف الاحتفاء لا كطقس جنائزي أنيق، بل كفعل حياة، يليق بمن يصنعون المعنى وهم يتنفسون بيننا.
الرياض
إبراهيم الوافي
في كل مرة يرحل فيها مبدع، يتأخر الرفاق خطوة، ثم يستديرون فجأة ليلوّحوا له بالورود، كأنَّ الموت هو الضوء الوحيد الذي يُحسن إضاءة الوجوه، أو كأنَّ الغياب شرطٌ متأخر للاعتراف، هذه المفارقة ليست عابرة، بل هي ظاهرة إنسانية ضاربة في عمق الوجدان والتاريخ.. لهذا سنتساءل دائمًا لماذا نحتفي بالمبدعين بعد رحيلهم أكثر مما نحتفي بهم وهم أحياء بيننا؟
فلسفيًا، يبدو الموت هنا كاشفًا لا قاطعًا، إنه يجرّد المبدع من ضجيج اليومي، من اختلافات الرأي، من حساسية الحضور التي تُربك التلقي، بعد الرحيل، يتحول المبدع إلى “نص خالص”، إلى أثر بلا صوت، وإلى ذاكرة بلا مطالب، حينها فقط، نشعر أننا نستطيع الإنصات له دون خوف من المقارنة أو المنافسة أو حتى الحسد الخفي الذي لا نعترف به، فالحياة بطبيعتها ساحة ازدحام، أما الموت فيصنع فراغًا يليق بالتأمل.. وجدانيًا، نحن نحب من بعيد أكثر مما نحب من قريب، القرب يحمّلنا مسؤولية الاعتراف، والمساندة، وربما الاختلاف الصريح، أما البعد، فيمنحنا رفاهية الحنين، بعد الرحيل يصبح المبدع “قصة مكتملة”، لا تتغير، ولا تخذلنا بتحولات جديدة، ولا تربك ذائقتنا بتجربة لم نفهمها بعد، والحنين بطبيعته انتقائي يلتقط الأجمل، ويترك ما عداه في الظل، ولهذا يبدو الاحتفاء بعد الموت أنقى لكنه في حقيقته أقل شجاعة.. اجتماعيًا، تلعب الجماعة دورها المعتاد في صناعة الإجماع المتأخر، ففي حياة المبدع تتوزع الآراء، ويشتبك المختلفون، وتحتدم الأسئلة حول القيمة والجدوى والاتجاه، وبعد موته تهدأ السجالات، ويُعاد ترتيب السردية، فجأة يصبح “رمزًا”، والرمز لا يُناقش بل يُعلّق على الجدران ويُحتفى به في المناسبات فالمجتمع هنا لا يحتفي بالمبدع فقط، بل يحتفي بنفسه أيضًا، لأنه أخيرًا “انتبه”، ولو متأخرًا.. تاريخيًا، هذه الظاهرة ليست استثناءً عربيًا ولا سعوديًا، بل هي سلوك إنساني متكرر، من الشعراء والفلاسفة والعلماء، إلى الموسيقيين والفنانين، كثيرون لم يعرفوا دفء الاعتراف إلا بعد أن بردت أيديهم، التاريخ نفسه يُكتب غالبًا بعد أن تهدأ العواصف، وبعد أن يغيب أصحاب الأصوات العالية، وكأن الزمن يحتاج إلى مسافة كافية ليحكم، لكنه في أحيان كثيرة يتذرع بهذه المسافة ليبرر تأخره، غير أن السؤال الأكثر إيلامًا لا يتمثل في لماذا نحتفي بعد الرحيل؟ بل ماذا نخسر حين نفعل ذلك؟ نخسر فرصة الحوار مع المبدع وهو في أوج قلقه الخلّاق، نخسر أثر التشجيع في لحظة الشك، ودفء الاعتراف في لحظة التعب، نخسر أن نكون جزءًا حيًا من التجربة، لا مجرد شهود متأخرين على نهايتها.. الاحتفاء بعد الرحيل جميل، لكنه ناقص، يشبه باقة ورد تُلقى على مكان اللقاء بعد برودة ظلاله ورحيل أهله!
إن الأجمل، والأصدق، والأكثر عدلًا، أن نحتفي بالمبدعين وهم بيننا نختلف معهم، نعم، لكن نعترف بهم، نناقشهم، لكن لا نصمت عن قيمتهم. فالمبدع لا يكتب للتاريخ فقط، بل للّحظة التي يعيشها، وللقارئ الذي يلتقيه الآن، لا بعد أن يصبح صورة مؤطرة في ذاكرة الزمن.. ربما آن الأوان أن نعيد تعريف الاحتفاء لا كطقس جنائزي أنيق، بل كفعل حياة، يليق بمن يصنعون المعنى وهم يتنفسون بيننا.
الرياض