• ×
admin

في اليوم العالمي للغة العربية.. (إن كنا صادقين!)

في اليوم العالمي للغة العربية.. (إن كنا صادقين!)

أ.د. عبدالله بن أحمد الفيفي

- 1 -

في لقاءٍ حواريٍّ أجراه معي المذيع (الأستاذ ماجد العمري)- في برنامج «الثقافة اليوم»، بُثَّ مساء الخميس 26/ 2/ 1436هـ، عبر (القناة الثقافيَّة)، بمناسبة (اليوم العالمي للُّغة العربيَّة)- كنتُ أرى أنَّ المناسبة قد باتت أشبه ببكائيَّةٍ تأبينيَّةٍ للعَرَبيَّة؛ حتى إذا انفضَّ السامر، لم ينتج له من تأثيرٍ عمليٍّ للنهوض بسيِّدة اللُّغات. وتمنَّيتُ يومها تحويل (مركز الملك عبدالله بن عبد العزيز الدولي لخدمة اللُّغة العَرَبيَّة) إلى مجمعٍ للُّغة العَرَبيَّة، طال انتظاره. وهو ما تحقَّق بعد ستِّ سنوات، بتأسيس (مجمع الملك سلمان العالمي للُّغة العَرَبيَّة)، في 13 محرم 1442هـ. كأنَّما لأُعيد النظر في الزعم بأنَّ (اليوم العالمي للُّغة العَرَبيَّة)، لا يعدو تأبينًا للعَرَبيَّة، لا يُلمَس له من تأثيرٍ عملي.

غير أنَّ إنشاء المؤسَّسات اللُّغويَّة لا يُغني عن تفعيل قراراتها في الحياة الواقعيَّة العامَّة، ولا عن بثِّ الوعي، وفرض مقتضياته. وإلَّا فكم من المجامع والمراكز أقيمت في دولٍ عَرَبيَّةٍ، سبقتنا في هذا المضمار، وما برحت العَرَبيَّة فيها في انحدارٍ متواترٍ مُريع، إذا قارنت بين الحال فيها قبل عقودٍ فقط وحالها اليوم، أدركتَ هولَ الهاوية.

وإذا كانت للُّغة العَرَبيَّة قداستها، بوصفها لُغة «القرآن الكريم»، فإنَّ مفهوم قداسة اللُّغة ليس بالضرورة دِينيًّا فحسب، بل هو قوميٌّ وحضاريٌّ أيضًا. والأُمَّة التي لم تَعُد تشعر بهذا الشعور إزاء لُغتها أُمَّةٌ ميتة، أو قد فقدت عُذريَّتها، وشَرَفَها، واحترام وجودها. نعم، هناك من يُروِّج لمقولةٍ فحواها: أنَّ مكانة اللُّغة رهينة مكانة أهلها، وأنَّ انحطاط العَرَب وراء انحطاط العَرَبيَّة؛ وإذن، فإنَّ حال العَرَبيَّة اليوم حالٌ طبيعيَّة، لا ينبغي أن نشكو منها، ولا أن ندعو إلى تغييرها؛ ما دامت لن تتغيَّر أصلًا حتى يُغَيِّر العَرَب ما بأنفسهم من تخلُّفٍ وتَبَعيَّة. ومن ثَمَّ فإنَّ علينا- بحسب رأي هؤلاء المرجئة- انتظار أن يُصبح العَرَب دولةً عُظمَى، ويومئذٍ ستُصبح لغتهم لغةً عظمى كذلك، هكذا تلقائيًّا. وهو ظاهر حقٍّ، ربما أريد به باطلٌ باطن، أو انطوى على ذلك الباطل، عن قصدٍ أو عن غفلة. ذلك أن جدليَّة اللُّغة والحضارة هي كجدليَّة البيضة والدجاجة، من العُقم البيزنطي في الجدال القولُ بأنَّ إحداهما أهمُّ من الأخرى، أو أسبق منها. من حيث إن ثَمَّة تفاعلًا بنيويًّا عضويًّا بين اللُّغة والحضارة؛ فلا لُغة ناهضة بلا حضارةٍ ناهضة، ولا حضارة ناهضة بلا لُغةٍ ناهضة. على أنَّه إنْ كان للمفاضلة بين هذين الركنين في البناء الاجتماعي من وجه، فسنجد في اللسانيَّات ما يؤيِّد أوَّليَّة اللُّغة على الفِكرة. بل القول: إنَّه لا فكرة بغير كلمة، وأنَّ الفكرة تتأثَّر تشكُّلًا بطبيعة الكلمة. ومن هنا لم يكن عبثًا أن يهتمَّ الوعيُ الحضاريُّ باللُّغة أوَّلًا، وإنْ كانت المعطيات الصناعيَّة، والأسباب التقنيَّة، والروافع الحضاريَّة، والمكانة العالميَّة ما تزال في الحضيض. لأجل ذلك أحيت دولةٌ كالدولة الصهيونيَّة، على سبيل المثال، اللغةَ العبريَّةَ، الميِّتة منذ آلاف السنين.. بل من المشكوك فيه أنها كانت لغةً حيَّةً أو سائدةً في المجتمع العبراني أو اليهودي حتى قبل آلاف السنين تلك. أحيتها الصهيونيَّةُ وفرضتها فرضًا داخلَ كيانها المحتل، ولم يُسعفها فلاسفتها اللغويُّون الكُثر- ككثرة صوت (الخاء) في الكلمات العبريَّة- بمثل ما يُسعفنا به بعض متحذلقي العُربان لإرجاء ذلك ريثما تصبح الدولة دولة عظمى! من حيث رأى العِبران- بخلاف العُربان- اللُّغةَ أساسًا أوَّليًّا في مشروعهم البنائي، أيديولوجيًّا وحضاريًّا.

وإذا كنَّا نتذرَّع في مواجهة ضعف اللُّغة العَرَبيَّة- المنكوبة بمَن يُفترض أنَّهم أولادها المعاصرون- مقارنة بغيرها في العالم المعاصر، قائلين إنَّ الحضارة الغربيَّة قد فرضت لُغاتها، ولا سيما الإنجليزيَّة والفرنسيَّة، بفعل التقنية والإعلام، فإنَّنا- نحن العَرَب في المقابل- لا نكاد نفعل شيئًا في خدمة العَرَبيَّة، سِوَى التغنِّي بالماضي، ورفع الشعارات الفارغة، التي يناقضها الواقع التطبيقي في تعليمنا وإعلامنا، فضلًا عن شوارعنا وأسواقنا وحياتنا العامَّة والخاصَّة، أفرادًا وجماعات ودُوَلًا. حتى إنَّ السياحة، التي يُفترض أنها فرصة للمثاقفة الإنسانيَّة، وتعريف الآخَر بما لدينا، إنَّما نستقطب من خلالها الآخَر إلى ديارنا لنُقَدِّم إليه ثقافته هو! وبلغته هو! وكأنَّنا لا نعدو خدمًا لثقافات الآخَرين ولُغاتهم! إلى درجة أنَّنا نُسمِّي للسائح الأماكن في بلداننا، والفعاليَّات المقامة، والمنتجات المختلفة بتسمياته هو! فأيَّة خيبة حضاريَّة مرَّت بالعَرَب كخيبتهم المعاصرة. لقد كان العَربيُّ الجاهليُّ- بفطرته- أكثر وعيًّا حضاريًّا، وبمراحل ضوئيَّة، من العَرَبيِّ المعاصر؛ فلم يأخذ من لغات غيره إلَّا لضرورةٍ وبتعريب. والسبب أنَّ العَرَبيَّ القديم كان إنسانًا طبيعيًّا، حُرًّا، مستقِلًّا ثقافيًّا، يستشعر انتماءه القومي، وتحدِّي القوميَّات المحيطة به، على حين أنَّ العَرَبيَّ المعاصر إنَّما يقتات على فتات الآخَر، ولا يستشعر خلال ذلك إلَّا بدونيَّته إزاء القُوَى الغالبة، وتبعيَّته الوجوديَّة والأبديَّة لذلك الأزرق العينَين؛ غاية طموحه في الحياة أن يرضى عنه، ويعترف بحضوره معه على الكوكب الأرضي، وبأيَّة كيفيَّة! لماذا؟ لأنَّ العربيَّ المعاصر بات مستلَبًا، وكائنًا مدجَّنًا، مستعمَرًا، عسكريًّا، وحضاريًّا، وثقافيًّا، ولُغويًّا، وقيميًّا. رضخ للتوجيه العتيق لجَدِّه (الحُطيئة):

دَعِ المكارِمَ، لا تَرْحَلْ لِبُغْيَتِها

واقْعُدْ، فَإِنَّكَ أَنْتَ الطَّاعِمُ الكاسِي!

- 2 -

حتى إذا التفتَّ إلى التعليم اللُّغوي وجدته من البؤس بحيث لا يعدو في أحسن أحواله وأرقاها ترديد السَّلَف عن الأسلف منهم. ولنضرب هنا مثالًا واحدًا نموذجيًّا من ذلك الباب العام في التوارث والترديد، وليكن من خلال تقليد (ابن هشام النحوي)، بترديده، واجتراره ما سلف، وشغفه بالإغراب، الذي لا ينكره لديه ولدى أضرابه إلَّا مكابر، أُشْرِب عِشق الموروث. ولقد تخطَّى هذا النموذج النحوي في الترديد الشواهد، والآراء، إلى اللُّغة والاصطلاح. خذ مثالًا من جملة «سعيد كُرْز»، التي يكرِّرها في كتبه، في مواطن مختلفة، موروثًا عتيقًا عن (سيبويه، -180هـ)، صاحب «الكتاب»، أو راويه عن (الخليل). وإنَّما يحمله على هذا، إضافة إلى ثقافة الترجيع عن السَّلف، إعجابه بمفردة (كُرْز) هذه. وما زال النحويُّون يردِّدون هذا المثال إلى الآن، ويتنازعون في الإعراب من حوله، لأكثر من ألف سنة وقرنين. وأذكر هنا كم شغلنا هذا (الكُرْز) الذي يمثِّل به النحويُّون، ونحن طلبة، ولاسيما في باب عطف البيان والبدل! كأنَّ العَرَبيَّة ضاقت بهم بما وسعت، فلم يجدوا عبر العصور كلمةً أخرى. كنا نتساءل: أهذه كلمة عربية أصلًا؟ أم أعجميَّة؟ ومَن الأستاذ (سعيد كُرْز)، بسلامته، الذي شغلَ حيِّزًا من كلام النُّحاة، منذ «إمامهم الأكبر» حتى اليوم؟ وكان الأساتيذ لا يحيرون جوابًا، ومع ذلك يظلُّون يُردِّدون ويُردِّدون، كما يُرَدِّد العابد طقسًا دينيًّا، فَهِم أم لم يَفهم. والكُرْز: خُرْج الراعي. فما الذي منعهم أن يقولوا: «سعيد خُرْج»، إنْ كان لا بُدَّ من هذا المعنى؟! لا شيء سِوَى التقليد الأعمى. ونحن نكاد لا نجد لمفردة (كُرْز) ذِكرًا في الشِّعر العَرَبي قبل الإسلام، إلَّا في قول (تأبط شرًّا):

وَجَدتُ ابنَ كُرْزٍ تَستَهِلُّ يَمينُهُ

ويُطلِقُ أَغلالَ الأَسيرِ المُكَبَّلِ

أو قول (هند بنت حذيفة الفزاريَّة):

لَقَد نالَ كُرْزٌ يَومَ حاجرَ وَقعَةً

كَفَتْ قَومَهُ أُخرَى اللَّيالي الغَوابِرِ

هذا نموذج. وقِسْ عليه ما شئت في تعليمنا اللُّغوي الجامعي أو ما قبل الجامعي. ذاك لأنَّ ديدن النُّحاة: الإغراب، والاجترار، مع هوسٍ بالتماس ما يُضفي هالة من الغموض على مادَّتهم، بأيَّة صُورة من الصُّوَر، بكُرْز وبغير كُرْز، وهو ممَّا يدهش له المرء في سلوكهم المتوارث. والنتيجة معروفة: ماثلة في نظرة الناس إلى العَرَبيَّة وعلومها، كافيك عن الأقبال عليها، أو حبِّها، ولا تَسَلْ عن تعلُّمها واستعمالها.

- 3 -

ثمَّ يأتي شأن الكتابة والإملاء، ويأتي إهمال ضبط الكلمات، ضِغثًا على إبَّالة. من آيات هذا، مثلًا، تلك الياءات المِصْريَّة، التي تُكتَب في كوكب الكنانة، حفظه الله، ألفًا مقصورة! ولا عزاء للقارئ العَرَبي ولا للُغته! حتى إذا جاء منهم من يُعجِمها، خلط بين الياء والألف، كما يخلط أرباب نطق الذال زايًا بين الحرفَين، فإذا هم ينطقون الزاي ذالًا. (1) مثال ذلك إعجام (أحمد محمَّد شاكر) و(عبدالسَّلام محمَّد هارون) الياء في «مفضَّليات» (الضَّبي)، وذاك حَسَن منهما، مع أنه نادرٌ أن يصدر عن مطبعةٍ مِصْريَّة نصٌّ فيه ياء معجمة. فلعلَّ طبعة (دار المعارف بالقاهرة، 1964) للمفضَّليات من نوادر المطبوعات المِصْريَّة التي تُنقَط فيها الياء! ويبدو أنَّ المحقِّقَين الكبيرين قد عانيا للتمرُّد على ذلك الواقع المرسَّخ في الإملاء المِصْريِّ؛ بدليل أنهما أحيانًا كانا يُعجِمان أيضًا الألف المقصورة، بعد أن تشابهت عليهم الحروف! فتجد بيت (عَوف بن الأَحْوَص) هكذا:

مُلُوكٌ [علي] أَنَّ التَّحِيَّةَ سُوقَةٌ

أَلاياهُمُ يُوْفَـى بِها ونُذُورُهـا(2)

وقد صارت «على»: «علي»، (بالياء)! أو في قصيدة أخرى، حيث تقرأ:

كُفَّ خَدَّاهُ [علي] دِيبَاجَةٍ

و[على] المتْنَيْنِ لَوْنٌ قَدْ سَطَعْ(3)

وهذا مثال أيضًا، كمثال (كُرْز) السابق في عالم النحاة. هو بدَوره من شواهد المكابرة، والتنطُّع، والتمسُّك بما وُجِد عليه الآباء، من صائبٍ وخاطئ. وإلَّا لو كُتِب الحرفان هنا برسمَين مختلفَين، يميزان بين الألف والياء، كما هو الأصل، وكما يكتب العَرَب في سائر الأقطار العَرَبيَّة، لما وقعت الواقعة، ولا أشكلت كتابة مثل هذه الكلمات في كتاب «المفضَّليات»، ومن محقِّقَين عَبْلَين!

وليست من غايتنا الاستقصاء، ولكن لا تنس، ختامًا، الخلط الفاشي بين الألف الممدودة والألف المطويَّة، أو المقصورة. ولستُ أدري ما سِرُّ غرام المعاصرين بالألف الممدودة؟ حتى إنَّ بعض النساء تكتب اسمها: (نورا)، وهي (نورة)! أو (غادا)، وهي (غادة)! أتلك محاكاة لمنطوق لغات أخرى؟! ثمَّ خذ، مثالًا، من غير أسماء النساء، من أسماء أحياء (الرِّياض)، وهو ما يُسمَّى (حي المَلْقَا).. فما معناه؟! وإنَّما هو (المَلْقَى)، بالألف المقصورة، لكنَّه الغرام الذي أشرنا إليه بالألف الممدودة، وكأنَّ الذي يكتب لنا الأسماء (الخواجة كرياكو)! إذ يبدو أنَّ هذا المكان كان مَلْقَى أودية، أي ملتقاها. فالمَلْقَى، في اللُّغة، ملتقَى شيئين، عمومًا. جاء في اللُّغة، مثلًا: (المَلْقَى): ملتقَى الوعول من الجبال ومكان إقامتها، تستعصم به من الصيَّاد. وقيل: المَلْقَى: أعلى الجبل، والجمع الملاقي.

قال الشاعر، في هذا المعنَى:

ونِعْمَ مَلْقَى الرِّجالِ مَنْزِلُهُمْ

ونِعْمَ مَأْوَى الضَّرِيكِ في الغَبَسِ(4)

* * *

وهكذا حيثما وليتَ وجهك وجدت العَرَبيَّة التي يُشوِّهها مَن يُفترض أنهم أولادها ويُعوِّقوها، بدءًا من النقطة فالحرف، وصولًا إلى الكلمات فالجُمَل.

فما جدوَى الاحتفاء باليوم العالمي للُّغة العَرَبيَّة، الذي نجترُّه كلَّ عامٍ منذ سنين عددًا، ما لم يتمخَّض عن مراجعاتٍ جادَّة، في التعليم والإعلام والحياة الثقافيَّة والعامَّة، لمحاولة إصلاح ما أفسدته الدهور وأهلُها من سَويَّة لُغتنا العَرَبيَّة المجيدة، إنْ كنَّا صادقين؟!

**__**__**__**__**__**

(1) لهذا تجد كلمة «جازع» قد صارت «جاذع»، في ديوان (أبي تمَّام، بشرح الخطيب التبريزي، تحقيق: محمَّد عبده عزَّام، (القاهرة: دار المعارف، 1983)، 4: 39/ 8)، في بيته:

أَلَّا يُعَزَّى جَازِعٌ بِحَمِيمهِ

حتَّى يُعزَّى أوَّلًا بِعَزائِهِ

أمَّا لماذا لم تُقلَب الزاي ذالًا في «يُعزَّى بِعَزائِهِ»؛ فذلك لأنَّ الخلط لا يقع لدَى هؤلاء في جميع الكلمات الزائيَّة، ولكن في بعضها؛ فترى أحدهم يُخرِج لسانه للنُّطق بالذال، توقِّيًا لمغبَّة الوقوع في الخطأ اللَّهجي. ومثل هذا يقع لدينا في دول (الجزيرة العَرَبيَّة) و(الخليج العَرَبي) و(العراق) في الخلط بين نُطق الضاد والظاء.

(2) الضبِّي، المفضَّل، (1979)، المفضَّليات، تحقيق وشرح: أحمد محمَّد شاكر وعبدالسلام محمَّد هارون، (القاهرة: دار المعارف)، 178/ 14.

(3) م.ن، 196/ 52.

(4) يُنظَر، مثلًا: الزَّبيدي، تاج العروس، (لقي)، (غبس).

** **

- (العضو السابق بمجلس الشورى - الأستاذ بجامعة الملِك سعود)

p.alfaify@gmail.com ** https://twitter.com/Prof_Dr_Alfaify

الجزيرة
بواسطة : admin
 0  0  4