• ×
admin

ذكريات طفل في شتاء الطائف

ذكريات طفل في شتاء الطائف

م . طلال القشقري

وُلِدْتُ وعِشْتُ بمدينة الطَّائف في كلِّ مراحلي المدرسيَّة، الابتدائيَّة، والمتوسِّطة، والثانويَّة، وكُنْتُ أعشقُ شتاءَها أكثرَ من صيفها، وما زلتُ أذكرُ بيت شعر لأحد شعرائها دون تذكُّر اسمه، إذ قال:

يَا طَائفَ الغيْمِ.. فِي شتائِك مُتَّسعٌ

لحُلْمِ شَاعرٍ تسقِيه.. أنفاسُ النَّسيمِ

وممَّا أتذكَّره عن طفولتِي في شتاء الطَّائف هو الذهاب لصلاة الفجر في المسجد المجاور لبيتنا، برفقةِ أبي -يرحمه الله- ولكُم أنْ تتخيَّلُوا طفلًا صغيرًا دون التَّاسعة من عمره، وهو يخرج من حياة وحركة البيوت الدَّافئة لسكون وبرْد الشَّوارع، يرتجفُ جلدُه ولكن يشتعل قلبُه فخرًا، والضبابُ الكثيفُ الذي يزور الطَّائف في الشِّتاء يعانقُ عتمة آخر الليل، وكُنْتُ أتخيَّل حينها أنَّ الملائكة تحرسنِي؛ بسبب ذهابي لهذه الصَّلاة العظيمة، وتُرافق خُطاي، وحين أدخلُ المسجدَ ينقشعُ البرد القارس، وأشعرُ أنَّني حقَّقْتُ أُولى بطولات يومي على صفيح بارد!.

ولا أنسى مرافقة أبي بعد صلاة الفجر في الصباحات الباردة، لشراء الحليب الطَّازج من محلَّاته الشعبيَّة في حيِّ الشهداء الجنوبيَّة، فأشاهدُ البُخارَ يتصاعدُ من قدورِ تسخين الحليب، وأكواب الصبِّ، وحين نعود للبيت، فإنَّ دفءَ شُرْبي للحليب لا يُعادل دفء نظرة من نظرات أُمِّي الحنونة -يرحمها الله- وكان ذلك كافيًا لجعْل صباحات الطَّائف أدفأ بقاع الدنيا.

وفي ليالي شتاء الطَّائف، كُنْتُ أنامُ بعدَ صلاة العِشاء مباشرةً مع إخوتِي، فوق فُرش قطنيَّة نمدُّها على الأرض، وتحت بطَّانيَّة سميكة تعلوها ناموسيَّة تمنحنا الدِّفء المطلوب، وكأنَّها خيمة بدويَّة تحرس أحلامنا من الهروب، وتهتزُّ أطرافُها المعلَّقة بمسامير في الجدار مع كلِّ نسمة هواء عابرة!.

ونومُ الشتاء في الطَّائف حكايةٌ لذيذةٌ، تُغريك بمزيدٍ من النَّوم، وبين تمام الدفء داخل البيوت، ورائحة الشتاء المقبلة من النوافذ، أستسلم للنُعاس اللَّذيذ، والنَّوم العميق، ولا يُوقظنِي إلَّا صوتُ ميكروفون مؤذِّن المسجد وهو يقول: اللهُ أكبر، اللهُ أكبر، وأدعو الله لأهل غزَّة بأنْ يُدفئهم في الشِّتاء، ويحميهم من الصهاينة المجرمِين!.

وأختمُ عن طفولتِي الشتويَّة، ولكن لا تفشُوا عنِّي سِرًّا، إذ بعد الاستيقاظ من النَّوم، كانت أُمِّي تغمرنِي أحيانًا بنظرات عتاب رقيق، وتقول لي (شَكْلَكْ مَا دَخَلْت الحمَّام قبلَ النَّوم، اذهبْ للحمَّام ثمَّ غيِّر ملابسكَ الدَّاخليَّة)، وعندما يسألها أبي عمَّا جرى، تقولُ له بصوتٍ خافتٍ، ولكنْ أسمعُه جيِّدًا (عمِل خريطةً صغيرةً من البول في الفِراش، وما دخل الحمَّام قبلَ النَّوم)!.

وأنا الآن في جدَّة ذات الشِّتاء غير البارد، وبعد مرور عقود على هذه الذِّكريات الجميلة -مُتقاعد- وأشتاقُ لشتاء الطَّائف، يا إلهي كم هو بديعٌ!.

وسَلامَتكُم.

المدينة
بواسطة : admin
 0  0  2