محنة الشعر..!
محنة الشعر..!
إبراهيم الوافي
مع تتابع الأحداث وتسارع الضوء وضمور ساعات التأمل.. يطل الشعر برأسه من بين أنقاض اليومي لا بوصفه سيّد المشهد، بل شاهده الأخير، لم يعد الشعر ذلك الكائن الذي امتلك زمن إرادته ووعيه، حين كان الشاعر وزير رؤياه، وحارس معناه، وقائداً لوعيه الجمعي، بل أضحى أقرب إلى ذاكرة جريحة تتحرك بلا قيادة، تُستدعى أكثر مما تبادر، وتُستهلك أكثر مما تُنصت، ففي مدنٍ أحاطت نفسها بسياج المال والأعمال، وتربصت فيها مطالب الواقع بكل حلمٍ زائد، انكمش الفضاء الذي كان الشعر يتنفس فيه، لم يبقَ له من المشهد العام سوى بقايا حياة رمزية حيث عصافير مسالمة تلوذ بشجيرات غريبة عنها، ويمامات دجّنتها المدينة حتى فقدت دهشتها الأولى، تستيقظ مع الضوء لا لتغنّي، بل لتنجو؛ تقضي صباحاتها في جمع أعواد قشٍ شحيحة، تشيّد بها أعشاشاً مؤقتة على أغصان محمومة بالرقص، أو في ردهات رخامية تتجه ببطء نحو الغبار، هناك، في هذه التفاصيل الصغيرة، أجد الشعر يربّت على كتفي كأنه يخصّني وحدي، يحاول أن ينتشلني من زمنٍ لا يلتفت، فأجدني أتساءل: كم قشّة سقطت من منقار عصفور وهو يحاول بناء عشّه في شرفة آيلة للرياح؟ وكم يمامة غادرت نافذة موصدة باتجاه شارع يعجّ بالطواحين؟
أسأل بصوت منكسر، متخفياً أحياناً خلف ادعاء الحكمة والولاية، فالشعر اليوم غريب في حاضره، قريب فقط من ذاكرته، ونحن لا نتكئ عليه إلا بوصفه حجةً جمالية بلا إرادة، ولا نبحث عنه إلا لنتسلّقه إلى رف جديد في مكتبة يومنا، مكتبة لا تعبأ بما تكدّسه بقدر ما تعبأ بسرعة التبديل، فقد صار الشعر زينة فكرية في كثير من السياقات، لا ضرورة وجودية؛ يُستدعى للتلطيف لا للتأسيس، للتجميل لا للإنقاذ..!
ومع ذلك، لست خائفاً على الشعر ولا معنيّاً بتأبينه، الشعر أقدم من مخاوفنا، وأصلب من نوبات الغياب، لكنه في الوقت ذاته، ليس محصّناً من وحدتنا، خوفي الحقيقي على أرواحنا حين يُيَتَّم الحنين بغيابه، وحين يتقابح الجمال بفقده، وحين يتحول الإنسان إلى كائن مكتفٍ بالوظيفة، فقير في المعنى، ثم أتساءل ماذا يتبقى في كون الأرواح إن لم يكن الشعر أكرم زائريها، وأكثرهم نبلاً، وأقلهم ادعاءً؟
لطالما قلت إن الشاعر، حين تكون غايته القصيدة لا التصفيق، يختلي بها في مختبره الجمالي، يركّب ويحلّل، يجرّب ويكرر، يبكي غناءً، ويحزن تاريخاً، ويقرأ غيباً لا بوصفه نبوءة، بل بوصفه احتمالاً إنسانياً، هناك في العزلة الشاقة، لا يكون الشعر مهنة ولا موقفاً، بل قدر خالد يتكرر بتعاقب العصور والأحداث، هكذا يخرج الشاعر من مختبره أو من عمره وقد ترك الرحلة كلها في ذمّة التاريخ، لا طلباً للخلود، بل وفاءً للحظة صدقٍ مرّت به ولم يشأ أن يخونها.
ربما لا يحتاج الشعر اليوم إلى من ينقذه، بل إلى من يعيد الإصغاء إليه خارج صخب الاستخدام، يحتاج إلى أن يُستعاد كأفقٍ للمعنى، لا كديكور للعبارة، وحين نفعل ذلك، سنكتشف أن الشعر، وإن بدا متوارياً، لم يغادرنا يوماً؛ نحن فقط من ابتعدنا عنه، ثم سمّينا ذلك واقعيّة أو خلاصاً من وهم الأحلام..!
الرياض
إبراهيم الوافي
مع تتابع الأحداث وتسارع الضوء وضمور ساعات التأمل.. يطل الشعر برأسه من بين أنقاض اليومي لا بوصفه سيّد المشهد، بل شاهده الأخير، لم يعد الشعر ذلك الكائن الذي امتلك زمن إرادته ووعيه، حين كان الشاعر وزير رؤياه، وحارس معناه، وقائداً لوعيه الجمعي، بل أضحى أقرب إلى ذاكرة جريحة تتحرك بلا قيادة، تُستدعى أكثر مما تبادر، وتُستهلك أكثر مما تُنصت، ففي مدنٍ أحاطت نفسها بسياج المال والأعمال، وتربصت فيها مطالب الواقع بكل حلمٍ زائد، انكمش الفضاء الذي كان الشعر يتنفس فيه، لم يبقَ له من المشهد العام سوى بقايا حياة رمزية حيث عصافير مسالمة تلوذ بشجيرات غريبة عنها، ويمامات دجّنتها المدينة حتى فقدت دهشتها الأولى، تستيقظ مع الضوء لا لتغنّي، بل لتنجو؛ تقضي صباحاتها في جمع أعواد قشٍ شحيحة، تشيّد بها أعشاشاً مؤقتة على أغصان محمومة بالرقص، أو في ردهات رخامية تتجه ببطء نحو الغبار، هناك، في هذه التفاصيل الصغيرة، أجد الشعر يربّت على كتفي كأنه يخصّني وحدي، يحاول أن ينتشلني من زمنٍ لا يلتفت، فأجدني أتساءل: كم قشّة سقطت من منقار عصفور وهو يحاول بناء عشّه في شرفة آيلة للرياح؟ وكم يمامة غادرت نافذة موصدة باتجاه شارع يعجّ بالطواحين؟
أسأل بصوت منكسر، متخفياً أحياناً خلف ادعاء الحكمة والولاية، فالشعر اليوم غريب في حاضره، قريب فقط من ذاكرته، ونحن لا نتكئ عليه إلا بوصفه حجةً جمالية بلا إرادة، ولا نبحث عنه إلا لنتسلّقه إلى رف جديد في مكتبة يومنا، مكتبة لا تعبأ بما تكدّسه بقدر ما تعبأ بسرعة التبديل، فقد صار الشعر زينة فكرية في كثير من السياقات، لا ضرورة وجودية؛ يُستدعى للتلطيف لا للتأسيس، للتجميل لا للإنقاذ..!
ومع ذلك، لست خائفاً على الشعر ولا معنيّاً بتأبينه، الشعر أقدم من مخاوفنا، وأصلب من نوبات الغياب، لكنه في الوقت ذاته، ليس محصّناً من وحدتنا، خوفي الحقيقي على أرواحنا حين يُيَتَّم الحنين بغيابه، وحين يتقابح الجمال بفقده، وحين يتحول الإنسان إلى كائن مكتفٍ بالوظيفة، فقير في المعنى، ثم أتساءل ماذا يتبقى في كون الأرواح إن لم يكن الشعر أكرم زائريها، وأكثرهم نبلاً، وأقلهم ادعاءً؟
لطالما قلت إن الشاعر، حين تكون غايته القصيدة لا التصفيق، يختلي بها في مختبره الجمالي، يركّب ويحلّل، يجرّب ويكرر، يبكي غناءً، ويحزن تاريخاً، ويقرأ غيباً لا بوصفه نبوءة، بل بوصفه احتمالاً إنسانياً، هناك في العزلة الشاقة، لا يكون الشعر مهنة ولا موقفاً، بل قدر خالد يتكرر بتعاقب العصور والأحداث، هكذا يخرج الشاعر من مختبره أو من عمره وقد ترك الرحلة كلها في ذمّة التاريخ، لا طلباً للخلود، بل وفاءً للحظة صدقٍ مرّت به ولم يشأ أن يخونها.
ربما لا يحتاج الشعر اليوم إلى من ينقذه، بل إلى من يعيد الإصغاء إليه خارج صخب الاستخدام، يحتاج إلى أن يُستعاد كأفقٍ للمعنى، لا كديكور للعبارة، وحين نفعل ذلك، سنكتشف أن الشعر، وإن بدا متوارياً، لم يغادرنا يوماً؛ نحن فقط من ابتعدنا عنه، ثم سمّينا ذلك واقعيّة أو خلاصاً من وهم الأحلام..!
الرياض