• ×
admin

سماحة الإسلام

سماحة الإسلام

أ.د. حمزة بن سليمان الطيار

من مظاهر سماحة الإسلام واعتداله تشريعُه لكلّ ما من شأنه أن يُجريَ أمورَ الناس ‏على السّداد والسلاسة، وعلى ذلك جاءت تشريعاته في الشؤون الأسرية والمعاملات ‏والعقوبات والشأن العامّ كلّه، ومن ذلك إناطةُ الشأن العامّ بوليّ أمر المسلمين، فلا شكَّ أن ‏الناس لو تُركوا وما يحلو لهم في حياتهم لألحق بعضُهم ببعض عنتاً شديداً، ونال القوي من ‏الضعيف كلما أراد ذلك..

خلق الله تعالى الثّقلين لعبادته وحده لا شريك له، مع غناه عنهم غنًى مطلقاً، فلا ‏يزداد ملكُه بطاعة مطيعٍ، ولا ينقصُ بعصيان عاصٍ، فثمرات الطاعة إنما ينتفع به المطيع، ‏وعواقب العصيان إنما يصطلي بها العاصي؛ ولكون التكاليف اختباراً أرسل الله تعالى إلى قوم ‏رسولاً من أنفسهم، يصدّق به من غلّبَ فطرتَه السليمةَ على هواه، ويشكّك فيه من حمله ‏الهوى على استنكاف الاستماع لبشرٍ مثله، وما من رسولٍ إلَّا وعنوانُ رسالته الدَّعوةُ إلى ‏توحيد الله تعالى، ثمَّ يأتي من الشرائع بما اقتضتهُ الحكمةُ الربّانيّةُ حسبَ أحوال الأمم، ولمّا ‏أراد الله تعالى ختم الرسل عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ أرسلَ سيّدَهم وخاتمَهم بشريعة خاتمة ‏شاملة، موجَّهة إلى الثَّقَلين في سائر الأزمنة والأمكنة، ومن رحمة الله تعالى بعباده أن جعلَ ‏عمومَ هذه الشريعة المحمّديّة مصحوباً بسماحتها واعتدالها ووسطيَّتها، فكانتْ رحمةً مطلقةً، ‏كما قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلَّا رَحْمَةً للْعَالَمينَ)، فكانت أوامرُها كفيلةً بتحصيل المصالح ‏وتكميلها، وكانت نواهيها كافيةً لدفع المفاسد وتقليلها، حاميةً للحُرمات التي لا يتسامحُ ‏الناسُ ولا يتعايشونَ إلا إذا احترموا حُدودَها، فهي لم تكتف بالحضّ على السّماحة فقط، بل ‏أعانتْ على تطبيقها وسوَّرتْها بأسوارٍ من التَّشريعات والأوامر والنّواهي، وفوَّضت إلى ولاة ‏الأمور منع الإنسان من أن يتسوَّر منها ما يُنافي العصمةَ.. ولي مع سماحة الإسلام وقفات:‏

الأولى: سماحة الإسلام تتجسّد في الاعتدال المحمود، فما من تفريط وإفراط إلَّا ونظرُ الشَّرع ‏الحنيف متوسّطٌ بينهما، فكانَ ممثلاً للأفضليّة المنوطة بالاعتدال، وبهذه الوسطيّة استحقّت ‏الأمة أن تكون شاهدةً على غيرها من الأمم، كما قال تعالى: (وَكَذَلكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ‏لتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاس)، وإنما يُختارُ للشهادة من ترفّع عن الإفراط والتفريط، فإذا ثبت ‏أن هذا الأمرَ مما جاءت به الشَّريعةُ فالإخلالُ بأدنى ما قررته فيه تفريطٌ، والتقيُّد الملتزم بما ‏أطلقته إفراطٌ، وكلاهما مذمومٌ، وقد قال بعض السلف: (*الاقْتصَادُ *في *السُّنَّة خَيْرٌ منَ ‏الاجْتهَاد في الْبدْعَة)، ولَمّا فهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم من بعض أصحابه أنّه يتّجه إلى ‏منهج إلزام النفس بما أطلقَ التَّرغيبُ فيه حذّر من هذا المنزلق، وبيَّن سوءَ عاقبته، فعن أَنَسٍ ‏رضي الله تعالى عنه، أَنَّ نَفَرًا منْ أَصْحَاب النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ سَأَلُوا أَزْوَاجَ النَّبيّ صَلَّى ‏اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ عَنْ عَمَله في السّرّ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا أَتَزَوَّجُ النّسَاءَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا آكُلُ ‏اللَّحْمَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا أَنَامُ عَلَى فرَاش، فَحَمدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْه. فَقَالَ: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ قَالُوا ‏كَذَا وَكَذَا؟ لَكنّي أُصَلّي وَأَنَامُ، وَأَصُومُ وَأُفْطرُ، وَأَتَزَوَّجُ النّسَاءَ، فَمَنْ رَغبَ عَنْ سُنَّتي فَلَيْسَ ‏منّي»، متفق عليه، وهذا الضابطُ من صميم السماحة؛ لأن بعضَ النفوس ميّالةٌ إلى ‏الاستغراق فيما دخلتْ فيه، فلو تُرك الإنسانُ ليتعبّد كما يتصوّرُ، لصارَ عمله تبعاً لهواه، ولم ‏يُخاطب بهذا، وإنما خوطبَ بأن يتَّبع الرسولَ صلى الله عليه وسلم.‏

الثانية: من مظاهر سماحة الإسلام واعتداله تشريعُه لكلّ ما من شأنه أن يُجريَ أمورَ الناس ‏على السّداد والسلاسة، وعلى ذلك جاءت تشريعاته في الشؤون الأسرية والمعاملات ‏والعقوبات والشأن العامّ كلّه، ومن ذلك إناطةُ الشأن العامّ بوليّ أمر المسلمين، فلا شكَّ أن ‏الناسَ لو تُركوا وما يحلو لهم في حياتهم لألحق بعضُهم ببعض عنتاً شديداً، ونال القويُّ من ‏الضعيف كلَّما أراد ذلك؛ ولهذا رُسمت معالمُ الحقوق، وأُنيط النظر العامُّ إلى صاحب الولاية، ‏وفي هذا توسُّطٌ بين التفريط المتمثّل في ترك الناس همَلاً بلا وازعٍ ولا آمرٍ ولا ناهٍ، وبين الإفراط ‏المتمثّل في إعطاء صلاحية الأمر والنهي والحلّ والعقد لكلّ من هبَّ ودبَّ، ففي كلتا الحالتين ‏فسادٌ عريضٌ، ولا شيءٌ من المصالح مع تطبيق أيٍّ منهما، وصدق من قال عنهما:‏

لا يَصلُحُ الناسُ فَوضى لا سَراةَ لَهُم .. *وَلا *سَراةَ *إذا *جُهّالُهُم سادوا

الثالثة: من مظاهر سماحة الإسلام جمعُه بين الحضّ على التحلّي بالأخلاق المُعينة على ‏التعايش والتَّآلف، والنهي عن الممارسات التي تسبّب التنافرَ، وتُحدثُ الشروخَ في علاقات ‏الناس، وقد قال العلماء: إن أجمع آية للبر والفضل ومكارم الأخلاق قوله عز وجل «إنَّ اللَّهَ ‏يَأْمُرُ بالْعَدْل وَالْإحْسَان وَإيتَاء ذي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَن الْفَحْشَاء وَالْمُنْكَر وَالْبَغْي» فالخصال ‏المأمور بها في صدر الآية عامةٌ شاملةٌ إذا تبادلها الناسُ تعايشوا، وما من خُلقٍ سامٍ يُحبُّ ‏الإنسانُ أن يُعامَل به إلا والآية متناولةٌ له، والخصال المنهيُّ عنها بعد ذلك (الفحشاء، ‏المنكر، البغي) جامعةٌ للسُّوء، منافيةٌ للسماحة، معكّرةٌ للتَّعايش، ويندرج فيها كلُّ إيذاءٍ يخشى ‏الإنسانُ أن يواجهَه في نفسه وماله وعرضه، فبقدر تطبيق الإنسان للآية يتحلّى بالسماحة ‏وسموّ الخلق.‏

الرياض
بواسطة : admin
 0  0  5