تعفّن الدم: قاتل خفي يهدد حياة الملايين
تعفّن الدم: قاتل خفي يهدد حياة الملايين
«الكشف المبكر ينقذ الأرواح»... شعار يومه العالمي
د. عبد الحفيظ يحيى خوجة
تعفن الدم -أو الإنتان (Sepsis)- يُعتبر أحد أخطر التحديات الصحية في العالم اليوم، إذ يُعرَّف بأنه استجابة (ردّ فعل) مناعية مفرطة، وغير منضبطة تجاه عدوى بكتيرية، أو فيروسية، أو فطرية، تؤدي إلى سلسلة من التفاعلات الالتهابية التي قد تُسبب فشلاً متعدداً في الأعضاء، وتهدد الحياة. ويُعرف أحياناً باسم «القاتل الخفي»، لأنه قد يبدأ بأعراض بسيطة تشبه الإنفلونزا، مثل الحمى، أو التعب، أو تسارع التنفس، لكنه يتطور بسرعة إلى حالة مهددة للحياة إذا لم يُشخص، ويُعالج في الوقت المناسب.
تكمن خطورة الإنتان في أنه لا يُعد مرضاً قائماً بذاته، بل هو نقطة التقاء بين العدوى والاستجابة المناعية غير المنضبطة، ما يجعله معقداً في التشخيص، ومتعدد الأسباب. وتتراوح مسبباته بين الالتهاب الرئوي، والتهابات المسالك البولية، والجلدية، والالتهابات البطنية، وقد تكون العدوى في بعض الحالات بسيطة لولا أن استجابة الجسم المفرطة تقود إلى انهيار حاد في الوظائف الحيوية.
لهذا السبب، يولي المجتمع الطبي العالمي أهمية بالغة لرفع الوعي حول الإنتان، وضرورة التعرف على أعراضه، وعلاجه المبكر.
اليوم العالمي لتعفن الدم
تم إطلاق اليوم العالمي لتعفن الدم في عام 2012 من قبل التحالف العالمي للإنتان (Global Alliance for Sepsis)، وهو منظمة غير ربحية تهدف إلى زيادة الوعي حول هذه الحالة المرضية، وتحسين معدلات النجاة منها. منذ ذلك الحين، بدأ العالم يحتفل في شهر سبتمبر (أيلول) من كل عام بهذه المناسبة، وأطلق في هذا العام شعار «الكشف المبكر ينقذ الأرواح»، والذي يهدف إلى رفع الوعي حول هذه الحالة المرضية الخطيرة التي تفتك بحياة الملايين سنوياً حول العالم، حيث تعاني أجهزة المناعة في أجسامهم من استجابة شديدة للعدوى، مما يجعله أحد أخطر التحديات الطبية على مر العصور.
في 26 مايو (أيار) 2017، اعتمدت جمعية الصحة العالمية (WHA) ومنظمة الصحة العالمية (WHO) قراراً تاريخياً جعل الإنتان أولوية صحية عالمية، من خلال اعتماد قرار لتحسين الوقاية، والتشخيص، وإدارة الإنتان. هذا القرار يمثل قفزة نوعية في المعركة العالمية ضد الإنتان، وعلامة فارقة في الاعتراف بالإنتان باعتبار أنه تهديد صحي عالمي.
رغم اعتماد هذا القرار الدولي، فإن أقل من 10 في المائة من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة طورت خطط عمل وطنية، وسياسات قائمة على الأدلة، بعد سبع سنوات من اعتماده. ويدعو هذا البطء في التنفيذ إلى قلق كبير، خاصة أن مكافحة الإنتان تعاني من نقص التمويل في الأجندات الوطنية والدولية (Global Agenda for Sepsis 2030).
وحتى في البلدان الغنية، حيث يتسبب الإنتان في وفيات أكثر من سرطان الثدي، وسرطان الأمعاء، وسرطان البروستاتا مجتمعة، فهناك القليل من الخطط المنسقة للتعامل مع هذا التحدي.
تعفن الدم... آلية مدمرة
• مهاجمة أنسجة وأعضاء الجسم السليمة. تعفن الدم هو استجابة مناعية مفرطة وخطيرة يقوم بها الجسم لمحاربة العدوى، سواء كانت بكتيرية، أو فيروسية، أو فطرية. وبدلاً من أن تقتصر هذه الاستجابة على مكافحة مسببات المرض، فإنها تبدأ في مهاجمة أنسجة وأعضاء الجسم السليمة. وهذا التفاعل المدمر يؤدي إلى التهاب واسع النطاق، وتلف في الأوعية الدموية، وتجلط غير طبيعي للدم، ما يعوق تدفق الأكسجين، والمواد المغذية إلى الأعضاء الحيوية.
وسابقاً، كان يطلق على هذه الحالة تسمم الدم (Septicemia) إشارة إلى وجود البكتيريا وسمومها في مجرى الدم، لكن حالياً يُعتبر ذلك مصطلحاً أقل دقة، وفقاً لنشرة حقائق الإنتان (Sepsis Fact Sheet) لمنظمة الصحة العالمية.
يمكن أن يتطور الإنتان من أي نوع من أنواع العدوى، بما في ذلك التهابات الجهاز التنفسي، مثل الالتهاب الرئوي، أو التهابات الجهاز البولي، أو التهابات الجروح والحروق، أو حتى من إجراءات طبية بسيطة إذا لم تتم في ظروف معقمة.
• أرقام صادمة تكشف حجم الكارثة. تشير أحدث الدراسات العلمية المنشورة في مجلة «The Lancet» إلى أن الإنتان يصيب ما بين 47 إلى 50 مليون شخص سنوياً حول العالم، ويتسبب في وفاة ما لا يقل عن 11 مليون شخص، وهو رقم يفوق عدد الوفيات الناجمة عن النوبات القلبية، والسكتات الدماغية، وسرطان الثدي، والإيدز مجتمعة. هذه الأرقام المرعبة تجعل الإنتان أحد الأسباب الرئيسة للوفاة على مستوى العالم، حيث يكون الإنتان مسؤولاً عن واحدة من كل خمس وفيات على مستوى العالم. وما يزيد من خطورة الموقف أن معظم هذه الوفيات كان من الممكن تجنبها إذا تم التشخيص المبكر، والعلاج السريع.
تؤكد دراسات طبية أخرى نُشرت حديثاً (PMC.2024) أن كل ساعة تأخير في بدء العلاج المناسب للإنتان تزيد من معدل الوفيات بنسبة تتراوح بين 7 إلى 10 في المائة، ما يجعل السرعة في التشخيص والعلاج أمراً حيوياً لإنقاذ الأرواح. وقد انخفضت معدلات الوفيات من الإنتان في الولايات المتحدة أخيراً من أكثر من 35 في المائة في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين إلى 15-20 في المائة، وذلك بفضل التحسينات في الرعاية الداعمة، والإدارة السريعة للمضادات الحيوية المناسبة.
رد فعل مناعي مفرط وغير منضبط تجاه عدوى بكتيرية أو فيروسية أو فطرية
الأعراض والعلاج والوقاية
• الأعراض. يُطلق على الإنتان لقب «القاتل الخفي» لا بسبب معدلات الوفيات العالية التي يسببها، بل أيضاً لأن أعراضه الأولية قد تكون خادعة، وغير محددة، ما يجعل التشخيص المبكر تحدياً حقيقياً حتى للأطباء المتخصصين. ففي المراحل الأولى، قد تتشابه أعراض الإنتان مع أعراض الإنفلونزا العادية، أو التهابات أخرى أقل خطورة.
تشمل الأعراض المبكرة للإنتان الحمى الشديدة، أو انخفاض درجة الحرارة بشكل غير طبيعي، والقشعريرة، وسرعة ضربات القلب، والتنفس السريع، والشعور بالتعب الشديد، والوهن العام، والغثيان والقيء، والألم، أو الانزعاج الشديد. ومع تقدم الحالة، قد يعاني المريض من انخفاض ضغط الدم، وصعوبة في التنفس، وانخفاض في كمية إدرار البول، وتغيرات في الحالة الذهنية، مثل التشوش، أو فقدان الوعي.
ووفقاً لدراسة إكلينيكية استمرت عشر سنوات (2009-2019) في أميركا الشمالية وأستراليا ونشرت عام 2020، فإن معدلات الوفيات من الإنتان والصدمة الإنتانية (septic shock) تتراوح بين 15 إلى 56 في المائة، مما يؤكد على الحاجة الماسة للتشخيص، والعلاج المبكر.
• التشخيص والعلاج. يواجه الأطباء تحديات كبيرة في تشخيص الإنتان، خاصة في مراحله المبكرة، حيث لا يوجد اختبار واحد يمكنه تأكيد تشخيص الإنتان بشكل قاطع، بل يعتمد التشخيص على مجموعة من العلامات السريرية، والفحوصات المختبرية. يشمل ذلك فحوصات الدم لقياس عدد خلايا الدم البيضاء، ومستويات البروتينات الالتهابية، وزراعة الدم للبحث عن مسببات العدوى، وفحوصات أخرى لتقييم وظائف الأعضاء المختلفة.
الإنتان حالة طبية طارئة، كل ساعة تأخير في العلاج تزيد من خطر الوفاة، والعلاج الفوري المبكر يُحسّن فرص النجاة بشكل كبير، ويشمل:
-المضادات الحيوية الوريدية واسعة الطيف: لمحاربة العدوى خلال الساعة الأولى من التشخيص.
-السوائل الوريدية: لتعويض الهبوط في ضغط الدم.
-وسائل داعمة: الأكسجين لضمان وصول كمية كافية منه إلى الأعضاء الحيوية، وأدوية رفع ضغط الدم، وأجهزة التنفس الصناعي، وأيضاً غسيل الكلى إذا فشلت الكليتان في العمل.
-الجراحة عند الحاجة: لإزالة مصدر العدوى، ومن ذلك الخراج، أو نسيج مصاب.
• مقاومة المضادات الحيوية والتحديات المستقبلية. تشير تقديرات منظمة الصحة العالمية حول الإنتان ومقاومة المضادات الحيوية لعام 2024 (Antimicrobial Resistance and Sepsis. WHO Fact Sheet) إلى أن هناك 4.95 مليون حالة وفاة مرتبطة بمقاومة مضادات الميكروبات في عام 2019، بما في ذلك 1.27 مليون حالة وفاة تُعزى مباشرة إليها. هذا الواقع يجعل من مقاومة المضادات الحيوية تحدياً إضافياً في علاج الإنتان، حيث إن العديد من البكتيريا المسببة للإنتان أصبحت مقاومة للمضادات الحيوية التقليدية.
يتطلب تنفيذ التدابير الوقائية ضد العدوى -مثل ممارسات النظافة الجيدة، وضمان الوصول إلى برامج التلقيح، وتحسين السيطرة على العدوى في المؤسسات الصحية- استثماراً كبيراً ومستمراً من قبل الحكومات، والمؤسسات الصحية.
• الوقاية. رغم أن الإنتان يمكن أن يصيب أي شخص، فإن هناك خطوات وقائية بسيطة يمكن أن تقلل بشكل كبير من خطر الإصابة. تبدأ الوقاية بالممارسات الأساسية لمكافحة العدوى، مثل غسل اليدين بانتظام، والحفاظ على نظافة الجروح وتضميدها بشكل صحيح، والحصول على اللقاحات الموصى بها وأهمها التطعيم ضد الالتهاب الرئوي، والإنفلونزا، وكوفيد-19، وطلب الرعاية الطبية الفورية عند ظهور علامات العدوى.
ووفقاً للدليل الإرشادي لمقاومة الإنتان الصادر في 2023 من مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها (CDC)، فعلى الفئات الأكثر عرضة -مثل مرضى السكري، أو السرطان، وأمراض المناعة الذاتية، وفئتي كبار السن فوق 65 عاماً والأطفال حديثي الولادة- أن يكونوا أكثر حذراً في تجنب مصادر العدوى، والانتباه لأي تغيرات في حالتهم الصحية.
يتسبب في وفاة ما لا يقل عن 11 مليون شخص سنوياً في العالم
توظيف الذكاء الاصطناعي
وفقاً لدراسة حديثة (2023) بعنوان: «الذكاء الاصطناعي في الكشف عن الإنتان وإدارته» نشرت في مجلة «طب العناية الحرجة»، فإن التكنولوجيا الحديثة تلعب دوراً متزايد الأهمية في مكافحة الإنتان. تطوير أجهزة الاستشعار الذكية التي يمكنها مراقبة العلامات الحيوية للمرضى في الوقت الفعلي، وإرسال تنبيهات عند حدوث تغيرات مشبوهة، يمكن أن يساعدا في التشخيص المبكر، وبدء العلاج بشكل أسرع.
كما تساهم أنظمة الذكاء الاصطناعي في تحليل البيانات الطبية، وتحديد الأنماط التي قد تشير إلى بداية الإنتان قبل ظهور الأعراض الواضحة. وهذه التطورات التكنولوجية تفتح آفاقاً جديدة للتنبؤ بالإنتان، والوقاية منه، وقد تساهم بشكل كبير في تحقيق أهداف خفض معدلات الوفيات.
ختاماً، إذا كنت أنت أو أحد أحبائك تعاني من أعراض قد تشير إلى الإنتان -مثل الحمى الشديدة، وسرعة ضربات القلب، وصعوبة التنفس- فلا تتردد في طلب الرعاية الطبية الطارئة فوراً، فكل دقيقة لها أهميتها في مواجهة الإنتان.
نؤكد على أن اليوم العالمي لتعفن الدم ليس مجرد مناسبة سنوية للتذكير بخطر هذا المرض، بل هو دعوة عاجلة للعمل على جميع المستويات. من الضروري أن نتحد جميعاً -من أطباء وممرضين ومرضى وأسر وحكومات ومنظمات دولية- في معركة الحياة والموت ضد هذا القاتل الخفي الذي يحصد أرواح الملايين سنوياً.
ويتطلب النجاح في هذه المعركة رفع مستوى الوعي العام حول الإنتان، وطرق الوقاية منه. إن كل يوم نؤخر فيه التشخيص والعلاج المبكر نفقد المزيد من الأرواح التي كان من الممكن إنقاذها.
الشرق الأوسط
«الكشف المبكر ينقذ الأرواح»... شعار يومه العالمي
د. عبد الحفيظ يحيى خوجة
تعفن الدم -أو الإنتان (Sepsis)- يُعتبر أحد أخطر التحديات الصحية في العالم اليوم، إذ يُعرَّف بأنه استجابة (ردّ فعل) مناعية مفرطة، وغير منضبطة تجاه عدوى بكتيرية، أو فيروسية، أو فطرية، تؤدي إلى سلسلة من التفاعلات الالتهابية التي قد تُسبب فشلاً متعدداً في الأعضاء، وتهدد الحياة. ويُعرف أحياناً باسم «القاتل الخفي»، لأنه قد يبدأ بأعراض بسيطة تشبه الإنفلونزا، مثل الحمى، أو التعب، أو تسارع التنفس، لكنه يتطور بسرعة إلى حالة مهددة للحياة إذا لم يُشخص، ويُعالج في الوقت المناسب.
تكمن خطورة الإنتان في أنه لا يُعد مرضاً قائماً بذاته، بل هو نقطة التقاء بين العدوى والاستجابة المناعية غير المنضبطة، ما يجعله معقداً في التشخيص، ومتعدد الأسباب. وتتراوح مسبباته بين الالتهاب الرئوي، والتهابات المسالك البولية، والجلدية، والالتهابات البطنية، وقد تكون العدوى في بعض الحالات بسيطة لولا أن استجابة الجسم المفرطة تقود إلى انهيار حاد في الوظائف الحيوية.
لهذا السبب، يولي المجتمع الطبي العالمي أهمية بالغة لرفع الوعي حول الإنتان، وضرورة التعرف على أعراضه، وعلاجه المبكر.
اليوم العالمي لتعفن الدم
تم إطلاق اليوم العالمي لتعفن الدم في عام 2012 من قبل التحالف العالمي للإنتان (Global Alliance for Sepsis)، وهو منظمة غير ربحية تهدف إلى زيادة الوعي حول هذه الحالة المرضية، وتحسين معدلات النجاة منها. منذ ذلك الحين، بدأ العالم يحتفل في شهر سبتمبر (أيلول) من كل عام بهذه المناسبة، وأطلق في هذا العام شعار «الكشف المبكر ينقذ الأرواح»، والذي يهدف إلى رفع الوعي حول هذه الحالة المرضية الخطيرة التي تفتك بحياة الملايين سنوياً حول العالم، حيث تعاني أجهزة المناعة في أجسامهم من استجابة شديدة للعدوى، مما يجعله أحد أخطر التحديات الطبية على مر العصور.
في 26 مايو (أيار) 2017، اعتمدت جمعية الصحة العالمية (WHA) ومنظمة الصحة العالمية (WHO) قراراً تاريخياً جعل الإنتان أولوية صحية عالمية، من خلال اعتماد قرار لتحسين الوقاية، والتشخيص، وإدارة الإنتان. هذا القرار يمثل قفزة نوعية في المعركة العالمية ضد الإنتان، وعلامة فارقة في الاعتراف بالإنتان باعتبار أنه تهديد صحي عالمي.
رغم اعتماد هذا القرار الدولي، فإن أقل من 10 في المائة من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة طورت خطط عمل وطنية، وسياسات قائمة على الأدلة، بعد سبع سنوات من اعتماده. ويدعو هذا البطء في التنفيذ إلى قلق كبير، خاصة أن مكافحة الإنتان تعاني من نقص التمويل في الأجندات الوطنية والدولية (Global Agenda for Sepsis 2030).
وحتى في البلدان الغنية، حيث يتسبب الإنتان في وفيات أكثر من سرطان الثدي، وسرطان الأمعاء، وسرطان البروستاتا مجتمعة، فهناك القليل من الخطط المنسقة للتعامل مع هذا التحدي.
تعفن الدم... آلية مدمرة
• مهاجمة أنسجة وأعضاء الجسم السليمة. تعفن الدم هو استجابة مناعية مفرطة وخطيرة يقوم بها الجسم لمحاربة العدوى، سواء كانت بكتيرية، أو فيروسية، أو فطرية. وبدلاً من أن تقتصر هذه الاستجابة على مكافحة مسببات المرض، فإنها تبدأ في مهاجمة أنسجة وأعضاء الجسم السليمة. وهذا التفاعل المدمر يؤدي إلى التهاب واسع النطاق، وتلف في الأوعية الدموية، وتجلط غير طبيعي للدم، ما يعوق تدفق الأكسجين، والمواد المغذية إلى الأعضاء الحيوية.
وسابقاً، كان يطلق على هذه الحالة تسمم الدم (Septicemia) إشارة إلى وجود البكتيريا وسمومها في مجرى الدم، لكن حالياً يُعتبر ذلك مصطلحاً أقل دقة، وفقاً لنشرة حقائق الإنتان (Sepsis Fact Sheet) لمنظمة الصحة العالمية.
يمكن أن يتطور الإنتان من أي نوع من أنواع العدوى، بما في ذلك التهابات الجهاز التنفسي، مثل الالتهاب الرئوي، أو التهابات الجهاز البولي، أو التهابات الجروح والحروق، أو حتى من إجراءات طبية بسيطة إذا لم تتم في ظروف معقمة.
• أرقام صادمة تكشف حجم الكارثة. تشير أحدث الدراسات العلمية المنشورة في مجلة «The Lancet» إلى أن الإنتان يصيب ما بين 47 إلى 50 مليون شخص سنوياً حول العالم، ويتسبب في وفاة ما لا يقل عن 11 مليون شخص، وهو رقم يفوق عدد الوفيات الناجمة عن النوبات القلبية، والسكتات الدماغية، وسرطان الثدي، والإيدز مجتمعة. هذه الأرقام المرعبة تجعل الإنتان أحد الأسباب الرئيسة للوفاة على مستوى العالم، حيث يكون الإنتان مسؤولاً عن واحدة من كل خمس وفيات على مستوى العالم. وما يزيد من خطورة الموقف أن معظم هذه الوفيات كان من الممكن تجنبها إذا تم التشخيص المبكر، والعلاج السريع.
تؤكد دراسات طبية أخرى نُشرت حديثاً (PMC.2024) أن كل ساعة تأخير في بدء العلاج المناسب للإنتان تزيد من معدل الوفيات بنسبة تتراوح بين 7 إلى 10 في المائة، ما يجعل السرعة في التشخيص والعلاج أمراً حيوياً لإنقاذ الأرواح. وقد انخفضت معدلات الوفيات من الإنتان في الولايات المتحدة أخيراً من أكثر من 35 في المائة في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين إلى 15-20 في المائة، وذلك بفضل التحسينات في الرعاية الداعمة، والإدارة السريعة للمضادات الحيوية المناسبة.
رد فعل مناعي مفرط وغير منضبط تجاه عدوى بكتيرية أو فيروسية أو فطرية
الأعراض والعلاج والوقاية
• الأعراض. يُطلق على الإنتان لقب «القاتل الخفي» لا بسبب معدلات الوفيات العالية التي يسببها، بل أيضاً لأن أعراضه الأولية قد تكون خادعة، وغير محددة، ما يجعل التشخيص المبكر تحدياً حقيقياً حتى للأطباء المتخصصين. ففي المراحل الأولى، قد تتشابه أعراض الإنتان مع أعراض الإنفلونزا العادية، أو التهابات أخرى أقل خطورة.
تشمل الأعراض المبكرة للإنتان الحمى الشديدة، أو انخفاض درجة الحرارة بشكل غير طبيعي، والقشعريرة، وسرعة ضربات القلب، والتنفس السريع، والشعور بالتعب الشديد، والوهن العام، والغثيان والقيء، والألم، أو الانزعاج الشديد. ومع تقدم الحالة، قد يعاني المريض من انخفاض ضغط الدم، وصعوبة في التنفس، وانخفاض في كمية إدرار البول، وتغيرات في الحالة الذهنية، مثل التشوش، أو فقدان الوعي.
ووفقاً لدراسة إكلينيكية استمرت عشر سنوات (2009-2019) في أميركا الشمالية وأستراليا ونشرت عام 2020، فإن معدلات الوفيات من الإنتان والصدمة الإنتانية (septic shock) تتراوح بين 15 إلى 56 في المائة، مما يؤكد على الحاجة الماسة للتشخيص، والعلاج المبكر.
• التشخيص والعلاج. يواجه الأطباء تحديات كبيرة في تشخيص الإنتان، خاصة في مراحله المبكرة، حيث لا يوجد اختبار واحد يمكنه تأكيد تشخيص الإنتان بشكل قاطع، بل يعتمد التشخيص على مجموعة من العلامات السريرية، والفحوصات المختبرية. يشمل ذلك فحوصات الدم لقياس عدد خلايا الدم البيضاء، ومستويات البروتينات الالتهابية، وزراعة الدم للبحث عن مسببات العدوى، وفحوصات أخرى لتقييم وظائف الأعضاء المختلفة.
الإنتان حالة طبية طارئة، كل ساعة تأخير في العلاج تزيد من خطر الوفاة، والعلاج الفوري المبكر يُحسّن فرص النجاة بشكل كبير، ويشمل:
-المضادات الحيوية الوريدية واسعة الطيف: لمحاربة العدوى خلال الساعة الأولى من التشخيص.
-السوائل الوريدية: لتعويض الهبوط في ضغط الدم.
-وسائل داعمة: الأكسجين لضمان وصول كمية كافية منه إلى الأعضاء الحيوية، وأدوية رفع ضغط الدم، وأجهزة التنفس الصناعي، وأيضاً غسيل الكلى إذا فشلت الكليتان في العمل.
-الجراحة عند الحاجة: لإزالة مصدر العدوى، ومن ذلك الخراج، أو نسيج مصاب.
• مقاومة المضادات الحيوية والتحديات المستقبلية. تشير تقديرات منظمة الصحة العالمية حول الإنتان ومقاومة المضادات الحيوية لعام 2024 (Antimicrobial Resistance and Sepsis. WHO Fact Sheet) إلى أن هناك 4.95 مليون حالة وفاة مرتبطة بمقاومة مضادات الميكروبات في عام 2019، بما في ذلك 1.27 مليون حالة وفاة تُعزى مباشرة إليها. هذا الواقع يجعل من مقاومة المضادات الحيوية تحدياً إضافياً في علاج الإنتان، حيث إن العديد من البكتيريا المسببة للإنتان أصبحت مقاومة للمضادات الحيوية التقليدية.
يتطلب تنفيذ التدابير الوقائية ضد العدوى -مثل ممارسات النظافة الجيدة، وضمان الوصول إلى برامج التلقيح، وتحسين السيطرة على العدوى في المؤسسات الصحية- استثماراً كبيراً ومستمراً من قبل الحكومات، والمؤسسات الصحية.
• الوقاية. رغم أن الإنتان يمكن أن يصيب أي شخص، فإن هناك خطوات وقائية بسيطة يمكن أن تقلل بشكل كبير من خطر الإصابة. تبدأ الوقاية بالممارسات الأساسية لمكافحة العدوى، مثل غسل اليدين بانتظام، والحفاظ على نظافة الجروح وتضميدها بشكل صحيح، والحصول على اللقاحات الموصى بها وأهمها التطعيم ضد الالتهاب الرئوي، والإنفلونزا، وكوفيد-19، وطلب الرعاية الطبية الفورية عند ظهور علامات العدوى.
ووفقاً للدليل الإرشادي لمقاومة الإنتان الصادر في 2023 من مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها (CDC)، فعلى الفئات الأكثر عرضة -مثل مرضى السكري، أو السرطان، وأمراض المناعة الذاتية، وفئتي كبار السن فوق 65 عاماً والأطفال حديثي الولادة- أن يكونوا أكثر حذراً في تجنب مصادر العدوى، والانتباه لأي تغيرات في حالتهم الصحية.
يتسبب في وفاة ما لا يقل عن 11 مليون شخص سنوياً في العالم
توظيف الذكاء الاصطناعي
وفقاً لدراسة حديثة (2023) بعنوان: «الذكاء الاصطناعي في الكشف عن الإنتان وإدارته» نشرت في مجلة «طب العناية الحرجة»، فإن التكنولوجيا الحديثة تلعب دوراً متزايد الأهمية في مكافحة الإنتان. تطوير أجهزة الاستشعار الذكية التي يمكنها مراقبة العلامات الحيوية للمرضى في الوقت الفعلي، وإرسال تنبيهات عند حدوث تغيرات مشبوهة، يمكن أن يساعدا في التشخيص المبكر، وبدء العلاج بشكل أسرع.
كما تساهم أنظمة الذكاء الاصطناعي في تحليل البيانات الطبية، وتحديد الأنماط التي قد تشير إلى بداية الإنتان قبل ظهور الأعراض الواضحة. وهذه التطورات التكنولوجية تفتح آفاقاً جديدة للتنبؤ بالإنتان، والوقاية منه، وقد تساهم بشكل كبير في تحقيق أهداف خفض معدلات الوفيات.
ختاماً، إذا كنت أنت أو أحد أحبائك تعاني من أعراض قد تشير إلى الإنتان -مثل الحمى الشديدة، وسرعة ضربات القلب، وصعوبة التنفس- فلا تتردد في طلب الرعاية الطبية الطارئة فوراً، فكل دقيقة لها أهميتها في مواجهة الإنتان.
نؤكد على أن اليوم العالمي لتعفن الدم ليس مجرد مناسبة سنوية للتذكير بخطر هذا المرض، بل هو دعوة عاجلة للعمل على جميع المستويات. من الضروري أن نتحد جميعاً -من أطباء وممرضين ومرضى وأسر وحكومات ومنظمات دولية- في معركة الحياة والموت ضد هذا القاتل الخفي الذي يحصد أرواح الملايين سنوياً.
ويتطلب النجاح في هذه المعركة رفع مستوى الوعي العام حول الإنتان، وطرق الوقاية منه. إن كل يوم نؤخر فيه التشخيص والعلاج المبكر نفقد المزيد من الأرواح التي كان من الممكن إنقاذها.
الشرق الأوسط