• ×
admin

هل تقدر اللجنة على بث ثقافة المحاسبة؟

هل تقدر اللجنة على بث ثقافة المحاسبة؟


د. عبدالسلام الوايل

قد تكون اللجنة التي شكلها خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله للتحقيق في كارثة جدة الآلية المناسبة للانتقال إلى عصر جديد في الطريقة التي تُقارب بها مسألة الفساد والمحسوبية في تنظيماتنا الرسمية. إذ ربما تمكننا اللجنة وما ستتوصل إليه من نتائج وما ستقره من عقوبات من تثبيت أصبح لازما لمعايير النزاهة في الجهاز الحكومي. فالمتابع لطريقة عمل الرقابة على أداء الأجهزة الحكومية وموظفيها يلحظ غيابا واضحا لثقافة العقاب العلني الرادع لمسيئي الأمانة من الموظفين. من منا يتذكّر فضيحة فساد لموظف مشهور في الدولة تم فيها تناول اسم الموظف في وسائل الاعلا م وتحول إلى حكاية تلوكها الألسنة ورصدته الكاميرات وهو يساق إلى المحكمة مغطي وجهه خجلا؟ لا أحد طبعا, لاننا مجتمع يحب الستر ويمقت الفضائح. لكن هل تصدقون لو قلت لكم ان الفائدة الأكبر للجريمة, بحسب المنظور الوظيفي في علم الاجتماع, تكمن في علنية عقابها وصرامته. فقسوة العقاب وعلنيته, بل وحتى فضائحيته, هى ما يمكن المجتمع من الحفاظ على نسق القيم فعّالا وعلى جعل المعايير واضحة وكفؤة. كيف يمكن لنا أن نحافظ على قيم النزاهة في العمل الحكومي فعالة وعلى معاييرها واضحة إن كان الفاسدون يهربون بغنائمهم بنجاح دون أن يحاسبوا؟ كيف يمكن لنا أن نقنع الموظف, صغيرا كان أو كبيرا, بأن النزاهة في صلب مصلحته الشخصية وأن الفساد والسرقة وانعدام الكفاءة مصدر ضرر عليه مادام أنه لم تحدث ولا حالة معاقبة علنية واحدة لفاسدين تردد الألسن حكايا ثرائهم المدهش ونجاحهم الحياتي الكبير؟ في واقعنا البيروقراطي, لم نُثبت, ولا حتى من حالة إعلامية واحدة, أن سلوك الإثراء غير المشروع جالب للضرر على صاحبه. بل, إن الثقافة الشعبية لدينا تذهب في الاتجاه المعاكس تماما. فتٌردد الحكايات بين الناس عن موظفين محدودي الدخل أصبحوا في موقع المسؤولية فتحولوا إلى عالم الأثرياء فاصبحوا مرهوبي الجانب في محيطهم الاجتماعي وأصحاب أياد بيضاء على الفقراء والمحتاجين من جماعتهم القرابية تلهج الألسنة بالثناء على احسانهم ومنّهم وكرمهم, وصاروا يتصدرون المجالس ويُنظر إليهم بعين الاحترام والتوقير أينما حلوا. وإذا كان الإثراء غير المشروع لدى الناس بهذه الصورة, فإنه لا يجب أن نفاجأ بالقابلية السهلة لدى البعض للتحول فاسدين, مادام أن الواقع يقول ان الفساد مُربح.
إننا بلاشك أمام حالة غياب كامل لآلية المحاسبة الصارمة للإثراء غير المشروع في فضائنا العام. يمكن لأي قارئ أن يرد على هذه النقطة بسرد منجزات الأجهزة الحكومية المنوط بها محاربة الإثراء غير المشروع, خاصة جهازي ديوان المراقبة العامة والمباحث الإدارية. لكن ومهما كانت إنجازات تلك الأجهزة فإنه لا يمكن إنكار المحدودية الشديدة في قدرتها على مكافحة الفساد في الأجهزة الحكومية وعجزها بالتالي عن أن تجذر قيم النزاهة وتغلبها. وببساطة شديدة, من منا يتذكر حادثة واحدة قدرت فيها أيّ من تلك الأجهزة على أن تحول قضية إثراء غير مشروع لموظف حكومي إلى قضية رأي عام, على غرار ما يحدث في المجتمعات التي يتسبب فيها الإثراء غير المشروع بجلب الضرر على صاحبه حيث تتحول محاكمات المخلين بالنزاهة إلى فضائح شخصية للمتورطين تدفع ببعضهم إلى الانتحار هربا من العار؟ بدون الردع العلني للسلوكيات الخاطئة لن تكون هناك إمكانية لتعزيز السلوكيات الصائبة. إن العقوبة العلنية, سواء كانت جسدية أمام مجموعة من المتفرجين أو حجزا في السجن وراء جدران مغلقة, تجعل من الشخص الذي لم يرتكب خطأ مترددا في أن يفعل ما ثبت أنه مجلبة للضرر عليه. وعلى هذا الأساس, تتحول النزاهة الشخصية للموظف إلى سلوك بديهي حيث يسود النظام الذي يكافئ المصيب ويحاسب المخطئ.
ربما تقدر لجنة التحقيق في كارثة جدة على قلب تلك المعادلة الثقافية الخاطئة, ربما تقدر تلك اللجنة على إحداث نقلة في آليات التمييز الأخلاقي بين ما هو صحيح من السلوكيات في الجهاز الحكومي وما هو خاطئ. و لتقدر على ذلك, على لجنة التحقيق في كارثة جدة أن تقبل بقلب جلسات التحقيق, أو بعضا منها على الأقل, إلى علنية. إن فعلت ذلك, فإنها ستنقل الفاسد من خانة المستفيد من سلوكه السيئ إلى خانة المتضرر منه. وحينها فقط, تتحقق وظيفية السلوك الفاسد بوصفه مساعدا على صيانة قيم النزاهة وإدامتها بين أفراد المجتمع ومنظماته.

المصدر: صحيفة اليوم
بواسطة : admin
 0  0  1407