• ×
admin

دعبل وخازن بيت المال

دعبل وخازن بيت المال!!


محمد عبد الواحد

يا عزيزي ــ دعك من كل ما مضى .. فبرغم كل صراخ الأمس ونحيب الماضي .. وصبر أيوب .. لازلت ــ كما أنت ــ مدعوكا مجلودا وبائسا، ولاتملك حولا ولا قوة .. ولاتمنع مكروها ولاتدفع شرا ولا تصوب خطأ ..
لازلت ترى صباك .. وشبابك وأيامك الميتة وأوراقك المتساقطة ولا تود أن تنفض عن عينيك الغبار والضباب وتبصر أن الدنيا لم تعد كما هي الدنيا .. وإن الناس لم تعد هي الناس .. وإن من يعيش مصفدا مكبلا بأغلال الماضي لايمكنه أن يصنع مستقبلا أو أن يعيش حاضرا .. أو يحقق أملا.
الأيام الخوالي والوقوف على الأطلال وذكريات الأمس كلها لاتكفي عن معايشة الحاضر .. والعمل من أجل بناء جسور إلى المستقبل وكل أمم الأرض التي عاشت مثقلة بأعباء تاريخها مزهوة فخورة به بادت وانتهت وتوقف نموها عند حدود تاريخها المتهالك ..
نحن لا ننكر أن لكل أمة ماضيها وتاريخها وأمجادها وانتصاراتها وهزائمها، ولكن لها أيضا حاضرها ومستقبلها ووعيها وإدراكها وإصرارها على تجاوز عقبات نموها وتطورها ..
قد يكون الماضي بيتا ــ حالما ــ نعايشه بالتذكر والحنين، ولكن الحاضر واقع نحسه ونلمسه ونراه .. ويمكن أن ننطلق منه إلى آفاق لاتحد ولاينبغي أن نتحسر على ما مضى .. فحتى بالأمس كان هناك (دعابلة) كثر .. وعوائق أكثر.. وأشرار وأخيار .. وناقمون .. وراضون .. ومصلحون وأفاقون .. ولم يخل زمن من هؤلاء وأولئك .. هكذا هي الدنيا .. يتضاجع فيها الخير والشر بالاتفاق فلا أيام العز تبقى .. ولا أيام الشقاء تبقى أيضا .. وأيام الناس فانية .. فالأشرار بكل تأكيد يأتون ويرحلون والأخيار أيضا.. ولا أحد يبقى ..
والمسألة ببساطة، إن من تدفعه الرياح إلى أعلى .. لابد وأن تهبط به أسفل السافلين .. ومن كان الرأس لاتستبعد أن يصبح ذات يوم الذنب ــ هكذا هي الأمور ــ وهكذا هي الحياة شئنا أم أبينا ..
لقد رأيت بشرا آسيويين ينبشون قبور موتاهم ويخرجون عظامهم .. وجماجمهم .. ويحرقونها .. وينثرونها في الهواء .. وكأن موتهم حتف أنوفهم لايكفي .. إنهم يعاقبون الموتى حتى بعد الموت ..
وهناك أحياء يموتون بطريقة أخرى .. يموتون بعيون مفتوحة وشفاه ترتعش .. وأجساد نحيلة محروقة .. ومن فرط بؤسهم تخالهم موتى خلف القضبان والسجون .. وبعضهم يموتون على مهل خارج السجون .. وأيامهم تتقدم بهم خطوة خطوة إلى حتفهم .. الكل مسجونون .. ولكل امرئ سجنه الذي يختاره بنفسه ..
ذات زمن مضى .. وقف (دعبل) الشاعر على باب جعفر البرمكي ينشده شعرا طرب له وانتشى .. وقبل أن يغرق جعفر في إغماءة طويلة .. وفي مصير أتعس وأطول سأل دعبل .. ما الذي تطلبه يا دعبل؟
فأجابه .. ليس لي مطلب سوى أن لا أموت معلقا بين السماء والأرض .. وخازن أموالك .. قد فعل بي هذا وحجب عني مكرمة أمرت بها ..
قال جعفر: ائتوني بالخازن ..
فجاءوا به مقيدا ..
فقال مخاطبا دعبل: ماذا تود أن نفعل به ونعاقبه لنرضيك .. قال: لا أريد له عقابا سوى أن تعزله عن قضاء حوائج الناس، قال جعفر: نعزله .. ونعلقه ثلاثة أيام على باب دار المال بين السماء والأرض .. حتى يراه كل أولئك الذين استبد بهم وأذلهم من المحتاجين ..
فصرخ الخازن ــ رحماك يا سيدي ــ، فوالله ما حجبت عنه عطاءه إلا رحمة به .. فهو متلاف يبذر أمواله وقد آثرت أن أدخر له ما أمرت به لا أكثر ..
قال دعبل ضاحكا: لقد صدق فقد أراد أن يدخر لي مالي بعد الموت .. وبماذا ينفعني المال بعد موتي .. يا سيدي ..
المهم أن جعفر .. ودعبل .. والخازن الشحيح ــ كلهم ماتوا، ولكن الخير في هذه الأمة لم يمت .. ولا أزيد.

المصدر: صحيفة عكاظ
بواسطة : admin
 0  0  1131